Saturday, September 9, 2017

السياحة الصحراوية وصناعة الصورة


أذكر أنه في صباح يوم دافئ من شهر ابريل، وقبل دخول المجموعة السياحية التي كنت مسؤولاً عنها الى المدينة العتيقة بفاس، كان المرشد السياحي المحلي الذي يرافقنا قد انتهى من إلقاء محاضرة مستفيضة عن تاريخ المدينة العريق وعن المآثر التي كنّا بصدد الوقوف عليها. قال في نهاية مداخلته وهو يشير للبوابة الشامخة، باب بوجلود: "عندما نعبُر هذه البوابة، ستجدون أنفسكم في قلب القرون الوسطى. هذه رحلة في الزمن ورحلة في الماضي وأتمنى ان تروقكم!". أعرف ان هذه الصورة (1) متداولة ليس في الأوساط السياحية فقط بل في بعض الأوساط الأكاديمية كذلك
رغم ذلك فقد انتابني شعور بالدهشة ونحن نجوب أزقة المدينة العتيقة التي تبدو صاخبة ورافضة أن تسجن في سكون الماضي العريق. فهل هذه فعلاً رحلة في الزمن؟ ماهي الصورة التي تختفي وراء الزمن وخلف هذا الحجاب الكثيف من التمثلات وكيف تمت صناعتها؟ كيف تفاعل المجتمع "المحلي" معها منذ عقود وكيف استعملها الفاعل-المستثمر السياحي (في جنوب المغرب خاصة) لإعادة توليد هوية   قابلة للتداول والتسويق؟



صناعة الصورة وتسويق الماضي:
كانت السياحة، إلى وقت قريب، قائمة على عمود أساسي وهو تحويل المكان إلى تجربة ذاتية يتحرر من خلالها السائح من ثقل الفضاء اليومي ويدخل الى عالم بديل يكون فيه التمثل أساس المتعة. تجربة يتوارى فيها الانسان وراء الهندسة والمآثر وشغف الصورة ليهمش فيها الزمن الحاضر. قبل السفر الى أرض بعيدة يمضي السائح وقتاً في البحث عن معلومات يبني من خلالها تصوراً عن برنامجه. يحاول الغوص في صور يكون قد استدخَلها من ذي قبل عن طريق المدرسة أو الاعلام أو البحث. فالسواح لديهم انتظارات وتمثلات يعرفها الوكلاء والفاعلون جيدا ويعملون جادين على ادراجها وتغذيتها

بهذا، كانت هندسة الصورة (2) أكثر أهمية من أي مجهود لوجستيكي لأنها شرط أساسي لضمان تجربة التحرر التي يختارها السائح بشكل إرادي قبل انتقاله الى أي فضاء جديد. رغم ان السائح عادة ما يكون مقتنعاً بان الفضاء الذي يزوره فضاء طبيعي وحقيقي، الا انه عادة ما يفاجئ بان عالمه الجديد (الماضي) تم انتاجه مسبقاً وبمهارة تماما كما خٌلقت الصور والتمثلات التي من اجلها تحمل مشاق السفر. بعض السواح يعودون الى بلدانهم بأرصدة دلالية وتجارب ثقافية عميقة وبعضهم يسايرون الحلم الغرائبي الممتع والمرصّع بصور الرقص الشرقي وليالي الصحراء الفضية (3)

لا شك أن القصص التي تفضّل السيد المرشد بعرضها علينا لا تختلف كثيراً في اللغة والمتن والخطاب عن القصص المنشورة في كتب الرحلات وفي كتب الارشاد السياحي (لونلي بلانت وكيد روتار وغيرهما) بل أحيانا فهي منقولة عنها بأمانة خارقة (4). لم أكن اعلم بشكل قاطع ان المرشد ومجموعة السياح كانوا على شبه اتفاق مسبق حول محتوى ومنهجية هذه الرحلة وتقاليدها. ربما كان الجميع قد اطلع على نفس الكتبوربما كنت الوحيد الذي يفاجئ بثقل هذا الماضي الذي نمشي فوقه ونحن نجوب ازقةً هذه المدينة العتيقة النابضة بالحياة وبالحاضر

في البدء كانت الصورة... 
 عندما دشن المقيم العام الفرنسي المارشال ليوطي برنامجاً سياحيا طموحاً في ربيع 1918، سخّر من اجله موارداً اقتصادية وبشرية هائلة، واستثمر علاقاته الدبلوماسية والشخصية الرفيعة علماً انه كان يتوفر على 'دفتر عناوين' كبير وغني. وكانت له علاقات جيدة مع النخب المثقفة في فرنسا وإنجلترا وغيرهما فحان الوقت ليطلب خدمات الأصدقاء والمحترفين. بموازاة مع الأوراش الكبرى التي سهر عليها، عمد الى استدعاء فنانين وكتاب أوربيين وامريكان لمساعدته على تصميم الصورة اللائقة بمغرب مقبل على ثورة سياحية عارمة. فجاءت وفود كبيرة لزيارة المغرب والكتابة عنه وتصويره
 اهم شطر في هذا المشروع السياحي الضخم هو كتابة "قصة مقنعة"(5) عن المغرب الجديد الآمن والغرائبي في ذات الوقت، لتغذية خيال الزائر-السائح الأوربي والأمريكي فظلت الصورة اهم جزء من البنية التحتية للسياحة علماً بأن المغرب كان في نظر المشروع الكولونيالي الكبير جزءاً لا يتجزأ من فرنسا وان السياحة ستخدم الاقتصاد الوطني الفرنسي الذي انهكته الحرب العالمية الاولى
عندما زارت الكتابة الامريكية المفرنَسة إيديث وارتن (6) بلاد المغرب في خريف ١٩١٧ لم يكن أحد يعرف انها ستؤسس لتقليد سردي تجاوز الزمن المعجمي بقدرته على زرع صورة المغرب في خيال القارئ الانجليزي المتعطش الى قصص الشرق الغريبةاتت الى المغرب ضيفة على المقيم العام الماريشال ليوطي وحرمه إيناس ليوطي اللذان وفرا لها التغطية الكاملة للقيام بعملها من اجل استقطاب السياح الانجليز والامريكان عبر كتاباتها في مجلة سكريفنر الذائعة الصيت في العالم الانجلوفوني. فأمضت شهراً كاملا في ربوع المغرب وزارت طنجة وفاس ومراكش
كانت مساهمة وارتن قوية في صناعة صورة مفادها ان المغرب يتوفر على تراث هائل من الفنون والمعمار يضاهي ما أنتجته أوروبا مند قرون ولكن هذا الموروث الثقافي والانساني آيل الى الخراب لان المغاربة في انحدارهم الى الهمجية لا يعرفون بقيمته. وأكدت على ان الفرنسيين وحدهم يمتلكون القدرة (العقلية والادراكية) على حمايته من الاهمال و الوندلة . لهذا وجب على الاوروبي والامريكي المجيء الى المغرب للتمتع بهذه المآثر قبل فوات الاوان. نشرت كتابها "في المغرب" (Morocco In) سنة ١٩٢٠ ولقي نجاحاً كبيراً في جميع الأوساط الأوربية وتمت اعادة طبعه أربع مرات خلال ستة سنوات. ساهمت وارتن من خلاله وبشكل مُلفت في خلق صورة جذابة عن مغرب غني بألوانه وهندسته الرائعة. قالت في مستهل حديثها عن عالم الاحلام الذي يجسده المغرب: الحاضر (هنا) امتداد ازلي للماضيولا يمكن لمس الماضي باليد إلا في الأحلام، ولكن في المغرب سيغمرك احساس بانك في حلم مع كل خطوة تخطوها. (7). المغرب هو ذلك الحيز الحالم والاسطوري الذي لا يحتاج الى اي حاضر ليتجلى

شجعت وارتن المسافر الأوربي، والناطق بالإنجليزية خصوصاً، على ان يجرب المنتوج السياحي الكولونيالي الذي رُصدت له ميزانية تضاهي ميزانية الجيش في سابقة سهر على تدبيرها الماريشال بنفسه، فتمت طباعة المنشورات والملصقات والبطائق البريدية وتم بناء الطرق والممرات والفنادق في الداخل وعلى طول خط "الجنوب الكبير" (8) وكُلفت أفواج من العسكر لحماية القوافل السياحية وضمان سلامتها (9). 


الصحراء بين الرومانسية وعقدة العبور:
بعد مدينة فاس تنتقل الحافلة السياحية الى الجنوب الكبير عابرة جبال الاطلس المتوسط 'ليتجدد' اللقاء بعالم أكثر غرائبية مباشرة عند الدخول الى أرفود وبعده كثبان عرگ الشّبي (راس الرمل). هذا العالم الصحراوي الذي ترسخت معالمه في اذهان الأوروبيين من خلال كتابات الرحالة والضباط القدماء وما أنتجته هوليوود وقنوات ديزني. فالصحراء فضاء مألوف في ذهن الاوروبي ولكنه غريب وجديد في نفس الوقت. بالنسبة لي، فهذا العالم يجسد المولد والمنشأ والوطن ولا تفاوض في الدلالة. رغم ذلك وظيفتي كمدرس كانت تحتم علي تفاعلا اكثر عقلانية لتحريرالخطاب والبيداغوجية ولإعلاء صوت كبار القرية والحكماء

 تتواجد الصحراء في جغرافية تنافرية تحاول إبعاد واقعها الشقي من أجل تدبير رومانسية اللقاء الحالم مع زوارها وتوفير أدوات الراحة لهم بعيدا عن أي تأثير للهندسة والإيكولوجيا لان قوة الجهل بالصحراء أكبر من قوة العلم بها كما يشير الى ذلك العارفون بأسرارها. رغم البعد وصعوبة السفر ظلت الصحراء تحتلّ مخيلة الانسان الاوروبي احتلالاً لا نجاة منه إلا بالتجلّي أو بالمجيء اليها ومحاولة تطويعها. ولما تعذر ذلك وُكّلت المهمة للنصوص... وللسياحة.

وبهذا يأتي السائح الى الصحراء ليجد فيها الحلم والماضي والخيام والجِمال والكثبان الرملية والهدوء والسلام... فينسى صخب المدن وضيق آفاقها. يأتي كذلك لتأكيد الصور القديمة التي يكون قد تعلمها مند مدة والتي تفرّعت عن قصص وترجمات ألف ليلة وليلة وقصص الصحراء العجيبة والمتوفرة في المكتبات ودور السينما وحديثاً في مواقع التواصل الاجتماعي.
تجسدت "عقدة العبور" عند الأوروبيين وتباينت حدّتها من مجتمع الى آخر عبر العصور لان الصحراء فضاء خال من الحياة كما فهموه، فجرَّبوا فيه قدراتهم على المغامرة وألبسوها ثوب البطولة والوطنية. وغامر الكثيرون بحياتهم في محاولات للعبور الى تمبكتو وإمبراطورية السا
السونگاي، موطن الذهب والمعادن.
 اول من روى قصة العبور في الأوساط الأوربية هو حسن الوزان المعروف بليون الأفريقي في كتابه "وصف أفريقيا” (١٥٥٠م)، والذي يروي فيه باستفاضة، طولها أربعة اجزاء، مسيرة الوفد الدبلوماسي المغربي الذي عبر الصحراء بنجاح من سجلماسة الى تمبكتو وما عاينه هناك من غنى وثروات.  فرسم صورة ملونة وخارقة عن مدينة يعمها التّرف ويأكل اهلها في صحون من ذهب. فأذكى بذلك شهية صيادي التّبر من الأوربيين ودغدغ مشاعرهم(8)
 بعد ذلك و لمدة طويلة قامت الحكومات بتمويل رحلات البحث والاستكشاف ونظمت رحلات العبور الى المدينة الأسطورية تمبكتو ( الإلدوادو) فافتتحت مكاتب  البحث الافريقية التي سهرت على ملفات العبور والاستكشاف الى اليَوْم
عندما تقدم الرحالة البريطاني ألكسندر جوردان لينج بطلب تمويل رحلته التاريخية كان دليله هو المغامرة وخدمة الوطن ومرجعه كتب حسن الوزان وروايات الصحراء. بعد عناء مع الإرهاق والمرض، وصل ليينغ الى المدينة وكتب عنها ما استطاع، الا ان عودته لم تكن موفقة فقتل في ربوع الصحراء سنة ١٨٦٢، ولم تتمكن السلطات البريطانية من استرجاع اغراضه ولا الكراسة التي كتب عليها ملاحظاته
اول من عاد سالماً الى المركز هو الرحالة روني كايي الفرنسي الذي أنجز رحلة أسطورية من سيراليون الي موريتانيا ثم الى تمبكتو متقمصا شخصية مسلم متصوف يمشي وحده في الصحراء بابتهال وخشوع. وصل الى تمبكتو سنتان بعد وفات جوردان ليينغ (١٨٢٨م) وبقي فيها حوالي أسبوعين فقط قبل ان يعود الى فرنسا عبر المغرب
لم تكن رواية كايي دسمة ولا كانت ملونة مثل رواية حسن الوزان اذ لم يعاين التّرف الذي وصفت به المدينة واهلها، لكنه أكد إمكانية العودة وانتصر بذلك على عقدة العبور التي قهرت اجيالا من الأوروبيين. حصل كايي على جائزة قيمتها عشرة الاف فرنك وكثيراً من الأوسمة والميداليات وعاد الى قريته ليتفرغ للكتابة عن الصحراء
 استمرت احلام عبور الصحراء حية في الخيال الاوروبي الى الْيَوْم فتتأجج احيانا وتهدأ أحياناً اخرى. واستمرت كذلك روايات الصحراء وتأثيث "الخلاء الأعظم " كما يصفه ابراهيم الكوني (9) بأساطير العبور والنجاح والفشل
 الْيَوْم يكتفي اغلب السياح بالتنقل على جنبات الصحراء دون الدخول الى بواطنها، فالبرامج لا تسمح بذلك خاصة بعد انتشار أوبئة الصحراء الجديدة: الاٍرهاب والقرصنة والتهريب


"الغلقة" أو رُكح التفاعل المزدوج:
في بداية سبعينيات القرن الماضي كانت قوافل السياح قليلة ومعدودة، تأتي الى قرية مرزوكة كل أسبوع أو أسبوعين على متن عربات خاصة يعرفها الجميع وينتظرها البعض. لم يكن السياح يحتكون بالسكان الا ناذراً وذلك راجع لأسباب ثقافية واجتماعية
  كان بعض السياح ملزمين (احياناً) باحترام خصوصية القرية وأهلها وكانت العزلة تضمن لهم شروط التمتع بالصحراء في هدوءمن المفيد الاشارة إلى ان عدم رغبة السكان للتعاطي مع السياح الاجانب كان سببه المباشر مرتبط بذاكرة الاستعمار. لا يزال الناس تذكرون ان هؤلاء (إيرومين- الروم) كانوا يحكمون المنطقة بأيادٍ من حديد قبل عقدين من الزمن فقطفسجُونهم في الطاوس وارفود لا تزال شاهدة على زمن التعذيب والقتلاليوم بدل المدافع أصبحوا يحملون آلات تصوير ويتكلمون بعنجهية أقل. فكان القرويون صادقين في حذرهم وفي التعبير عنه

 لكن شباب المدرسة لم يكترث بهذه العلاقات القديمة المثقلة بالذاكرة والاستعمار. كانت لديهم اهتمامات اخرى وقدرة على رسم معالم علاقة جديدة مع أرومي- الاوروبي. كانوا يدرسون الفرنسية ويستعملونها بطلاقة كافية لأن يوظفهم السياح في رحلاتهم الصحراوية كمرشدين. فاكتسبوا مهارات فائقة في السياحة وتواصل الثقافات. كان كل ذلك يتم دون مباركة كبار القرية الذين ينعتونهم قدحا ب ايضان ن ايرومين (كلاب الروم)

كان فندق مزروكة خلال هذه الفترة (عقد السبعينات) المأوى الوحيد للسياح وأحياناً لرجال السلطة. تم بناءه خارج فضاء القرية قرب التل الرملي الضخم، لالة مرزركة، للأسباب المعروفة: تدبير العلاقة مع السكان والحفاظ على مسافة اجتماعية وفضائية كافية لضمان تأقلم السياحة بالمجال المستضيف لها
خلال سنوات قليلة، تكاملت عناصر ثقافة جديدة وترسّخ البعد السياحي بجميع مكوناته عند شباب المنطقة. واصبحت السياحة المحلية تنمو مواكبة للخدمات الجديدة وما يتطلبه ذلك من تحرير للمعجم وللأنظمة اللغوية لاحتواء المجالات الدلالية والانشطة اليومية للسواح والفاعلين الجدد، وتم كذلك ادخال (تعلم أو بداية تعلم) لغات اخرى غير الفرنسية كالألمانية والإنجليزية ثم الاسبانية في وقت لاحق
وتبقى اللغة هي الشرط الأول لضمان تداولية محكمة لروايات الصحراء ورمزياتها. مواكبةً لذلك ادخلت العمامة الزرقاء والعباية أو الدراعة لتأكيد الانتماء "للرجال الزرق" والطوارق كهوية جديدة مقتبسة عن كتب الارشاد السياحي. وكان اول من ادخل العمامة الزرقاء الى مرزوكة كما يدكر الجميع هو المرشد المعروف موحى كازيل الذي كان يشتغل في خط المحاميد الغزلان وزاكورة. اما الطبول أو الطامطام التي تشتهر بها السياحة الان فان اول ظهور لها وقع على مشارف كثبان لالة مرزركة الشامخة في أوائل السبعينات. وبسرعة فائقة، تعلم شباب القرية إيقاعات جديدة لكناوة وإزنزازن وناس الغيوان قبل ان تمتد هذه التجربة لتشمل إيقاعات من السينغال ومالي
آنذاك بدأت مرحلة الممارسة الوظيفية ل "الغلقة"، وهي مفهوم عميق ومركب يغوص من خلاله المرشد (الگيد) في شخصية الانسان الأزرق الى درجة التماهي. والهدف هو ان تظل القصة التي يرويها للسائح مقنعة ومثيرة يكتب فيها المكان والتاريخ والهوية بحبر جديد. عندما يكتمل الاقناع ويعتقد السائح بصدق الرواية ويتفاعل من داخلها فهذه "غَلقة" ناجحة. ولا يحق لأي كان من داخل هذه الدائرة (المنطقة) ان يفشي السر أو يشكٌك في صدق الغلقة (التقية السياحية) وإلا اتهِم ب"الفرشا" التي ينتج عنها النفي خارج الدائرة الزرقاء.(أتمنى ان لا أكون من خلال هذا النص قد خطوت خارج نطاق السرّ !)
قد تطول لائحة المفاهيم الجديدة التي أُدخلت الى الحيز الدلالي السياحي بمرزوكة وقد لا يسع المجال هنا للغوص فيها لكن الجدير بالذكر ان الثقافة الجديدة ترعرعت على هوامش القرى (بعيدا عن انظار الشيوخ) في وقت كانت فيه المنطقة تعاني الفقر والتهميش والجفاف مما نتج عنه اخلاء جماعي لقرى بأكملها كقصر الطاوس واجزاء كبيرة من الخملية وحاسي لبيَض
بقي مجال السياحة مفتوحاً بشكل مضطرب رغم محاولات عديدة لتنظيمه. في ابريل ١٩٨٣ حصلت نقلة نوعية ستغير مجرى السياحة الى الأبد، عندما قرر يدير اوحنيني، عميد السياحة الصحراوية بالمنطقة، ان يبني اول مشروع سياحي خارج مجال القرية وهو عبارة عن خيمة على أطراف عرگ الشبي (راس الرمل) وبعد ذلك أتى بجمل واحد مكن السواح من التصوير على خلفية الرمال الذهبية وغروب الشمس. فاكتملت بذلك كل عناصر الصورة لتخليد "لحظات كوداكية" منقطعة النظيرآنذاك أمكن للسائح الاوروبي ان ينزل بفندق بأرفود وينتقل الى خيمة ايدير للتمتع بالرمال وغروب الشمس وبالشاي المغربي المنعنع واخد صور على ظهر الجمل (مولود) ويعود في نفس اليَوم الى غرفته المكيفة في المدينة
بعد سنة تم بناء غرفة أولى وحمام وبدا تعميد الفضاء فولد اول مأوى: الرمال الذهبية (Auberge Dunes d’Or)، توافدت افواج كثيرة من شباب المنطقة على هذا الفضاء وبعد سنوات تخرج منه العديد من المرشدين والفاعلين لتبدأ مرحلة جديدة من حياة السياحة الصحراوية وفتحت مآوي كثيرة على طول خط الرمال
في هذه المرحلة تنوع المنتوج لاحتواء تنوع السواح وازدياد عددهم. مما نتج عنه انتقال خدمة المرشد الصحراوي الى المدن المجاورة كأرفود والريصاني والراشيدية. كان المرشد يقف في الشارع لعرض خدماته على السواح وتامين سفرهم وكان التخوف هو ان يضلوا طريقهم وتسرقهم الصحراء أو يعتقلهم العسكر الجزائري. من ضمن الخدمات كذلك ان يأخذهم المرشد الى المأوى الذي يفضله ويأخذهم في رحلة حالمة الى الواحات وخيم الرحل وبحيرة اريقي والقصور والقصبات ولائحة طويلة من المآثر والانشطة
من اجل القيام بهذه المهمة على أحسن وجه، وجب على المرشد ان يحفظ نصوصاً كثيرة عن المنطقة وبناء قصص معقولة وقابلة للتصديق عن الصحراء وسكانها  (الناس الزرق والبدو و 'البربر'...) وعاداتهم ولغاتهم، وان يبدي مهارة في ممارسة فن "الغلقة"، الغراء الوحيد الذي يضمن لحمتهم المؤقتة

الان وبعد مضي أكثر من 35 سنة على افتتاح مأوى الرمال الذهبية، بلغ عدد المآوي السياحية والفنادق قرابة المائة، وانتشرت الخدمات و تنوعت؛ في ذات الوقت نشأ جيل جديد من الرواد الذين ستوكل اليهم مهمة استمرار وتدبير هذا الفضاء الموروث وربما إعادة كتابته. هل سيستمرون في تطبيق أساليب السياحة القديمة والمبنية على "الغلقة" وكاريزما المرشد (الانسان الأزرق) أم سينتقلون الى سياحة جديدة تعانق الفرق 21 بهوياته الاجتماعية المتعددة؟  هذا ما سيشعرنا به الزمن قريبا--ولكن الاكيد انه بعد عمر طويل ستنتقل "الغلقة" في نسختها  المغلقة الى والمقاهي والجامعات لتأسس مساراً جديدآً قابل للتفاعل مع ادوات التدبير والتواصل الحديثة

الهوامش والمراجع

1- صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، دار المدى، بيروت، الطبعة الثانية 2004، ص 14
2-Hunter, F. Robert. “Manufacturing exotica: Edith Wharton and tourism in French Morocco, 1917–20.” Middle Eastern Studies 46.1 (2010): 59-77.
3- المصدر السابق ص ،61
4- في غياب تأطير جاد للمرشدين فإن هؤلاء تحملوا مشاق تعلم اللغات التي يشتغلون بها وكذا مواد ومحتوى و منهجية مداخلاتهم . بعض (او ربما أغلب) المرشدين يطلعون على كتب الارشاد السياحي (Guidebooks) كمراجع أولية.
5-  تعريب (Certificate of credibility)
6-  Edith Wharton إيديث وارتن (1862-1937). اول كاتبة امريكية تزور المغرب في أكتوبر 1917 لدعم المشروع السياحي الذي سهر عليه ليوطي
7- Wharton, Edith. In Morocco . Public Domain Books. Kindle Edition. P,38

8-هذا المحور(المدار) يظم كذلك المراكز والثكنات العسكرية الفرنسية من ارفود الى ورزازات ويسمى كذلك طريق الالف قصبة.
9-السياحة، المعادن والعسكر، ثلاثية لاتزال قائمة الى اليوم
10- كاتب امازيغي من ليبيا. يعيش بالمهجر. صدر له اكثر من 80 مؤلف بالعربية جلها في أدب الصحراء

======
           
*استاذ جامعي يدرس التعليم والعدالة الاجتماعية بولاية ڤرمونت بالولايات المتحدة الامريكية؛ ناشط أمازيغي وباحث في الصورة والسياحة والشعوب الأصلية




السياحة الصحراوية وصناعة الصورة

أذكر أنه في صباح يوم   دافئ من شهر ابريل، وقبل دخول المجموعة السياحية التي كنت مسؤولاً عنها الى المدينة العتيقة بفاس، ...